الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (33- 35): وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله...} الآية ابتداءُ توصيةٍ لنبيِّه عليه السلام، وهو لفظ يَعُمُّ كلَّ مَنْ دعا قديماً وحديثاً إلى اللَّه عزَّ وجلَّ من الأنبياء والمؤمنين، والمعنى: لا أَحَدَ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ هذه حالُهُ، وإلى العمومِ ذهب الحسن ومقاتلٌ وجماعةٌ، وقيل: إنَّ الآية نزلَتْ في المُؤَذِّنينَ، وهذا ضعيفٌ؛ لأَنَّ الآية مَكِّيَّةٌ، والأذانُ شُرِعَ بالمدينةِ، قال أبو حَيّان: {وَلاَ السيئة} لا زائدة للتوكيدِ، انتهى. وقوله تعالى: {ادفع بالتى هي أَحْسَنُ} آية جَمَعَتْ مكارمَ الأخلاقِ وأنواعَ الحِلْمِ، والمعنى: ادفع ما يعرض لك مع الناس في مخالطتهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أَحْسَنُ، قال ابن عبَّاس: أمره اللَّه تعالى في هذه الآية بالصَّبْر عند الغَضَبِ، وَالحِلْمِ عند الجَهْل، والعَفْوِ عِنْدَ الإسَاءَةِ، فإذا فعل المؤمنُونَ ذلك، عَصَمَهُمُ اللَّه من الشيطان، وخضع لهم عَدُوُّهم، {كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} البخاريُّ: {وليُّ حميم} أي: قريب، انتهى،، وفسَّر مجاهدٌ وعطاءٌ هذه الآية بالسَّلاَمِ عند اللِّقاء، قال * ع *: ولا شَكَّ أنَّ السلام هو مبدأُ الدَّفْعِ بالتي هي أحسن، وهو جزء منه، والضمير في قوله: {يُلَقَّاهَا} عائد على هذه الخُلُقِ التي يقتضيها قوله: {ادفع بالتى هي أَحْسَنُ}، وقالت فرقة: المراد: وما يُلَقَّى لاَ إله إلاَّ اللَّهُ، وهذا تفسير لا يقتضيه اللفظ. وقوله سبحانه: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ}: مدح بليغ للصابرين، وذلك بَيِّنٌ للمتأَمِّلِ؛ لأنَّ الصَّبْرَ على الطاعات وعنِ الشهوات جامع لخصَالِ الْخَيْر كلِّها، والحظُّ العظيمُ: يَحْتَمِلُ أن يريد من العقل والفضلِ؛ فتكونَ الآية مدحاً لِلْمُتَّصِفِ بذلك، ويحتمل أن يريد: ذو حظ عظيم من الجنة وثواب الآخرة، فتكونَ الآية وعداً، وبالجنة فسر قتادةُ الحَظَّ هنا. .تفسير الآيات (36- 39): وقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} {إِمَّا}: شرطٌ وجوابُ الشرطِ قوله: {فاستعذ} والنَّزْغُ: فِعْلُ الشيطانِ في قَلْبٍ أو يدٍ من إلقاءِ غَضَبٍ، أو حقدٍ، أو بطشٍ في اليد. فمن الغضب هذه الآية، ومن الحقد قوله: {نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى} [يوسف: 100]، ومن البَطْشِ قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُشِرْ أَحَدُكُمْ على أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ؛ لاَ يَنْزَغُ الشَّيْطَانُ في يَدِهِ فَيُلْقِيَهُ في حُفْرَةٍ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» ومن دعاء الشيخِ الوليِّ العارف باللَّه سبحانه، محمَّد بن مَسَرَّة القُرْطُبِيِّ: اللَّهُمَّ، لاَ تَجْعَلْ صدري للشيطان مَرَاغاً، ولا تُصَيِّرْ قلبي له مجالاً، ولا تَجْعَلْنِي، مِمَّنِ استفزَّهُ بصوته، وأجلب عليه بخيله ورَجْلِهِ، وكُنْ لي من حبائله مُنْجِياً، ومن مصائده مُنْقِذاً، ومن غَوَايَتِهِ مُبْعِداً، اللهم إنَّه وَسْوَسَ في القلب، وألقى في النَّفْس ما لا يطيقُ اللِسانُ ذِكْرَهُ، ولا تستطيعُ النَّفْس نشره مِمَّا نَزَّهَك عنه عُلُوُّ عِزِّكَ، وسُمُوُّ مجدك، فَأَزِلْ يا سيِّدِي ما سَطَرَ، وامح ما زَوَّرَ بوَابِلِ من سحائِبِ عَظَمَتِكَ وطُوفَانٍ مِنْ بِحَارِ نُصْرَتِكَ، واسلل عليه سيفَ إبعادك، وارشقه بسهام إقصائِكَ، وأحْرِقْهُ بنار انتقامك، واجعل خَلاَصِي منه زائداً في حُزْنِهِ، وَمُؤَكِّداً لأسفه، ثم قال رحمه اللَّه: اعلم أَنَّه ربما كان العبد في خَلْوَتِهِ مشتغلاً بتلاوته، ويجدُ في نفسه من الوسوسة ما يحولُ بينه وبين رَبِّه، حتى لا يَجِدَ لطعمِ الذِّكْرِ حلاوةً، ويجدَ في قلبه قساوةً، وربما اعتراه ذلك مع الاجتهاد في قراءته؛ وعِلَّةُ ذلك أَنَّ الذِّكْرَ ذِكْرَانِ: ذكرُ خَوْفٍ ورهبةٍ، وذكْرُ أَمْنٍ وغفلةٍ، فإذا كان الذِّكْرُ بالخَوْفِ والرهبة، خَنَسَ الشيطانُ، ولم يحتملِ الحَمْلَةَ، وأذهب الوسوسة؛ لأنَّ الذكر إذا كان باجتماع القلب وصِدْقِ النية، لم يكُنْ للشيطانِ قُوَّةٌ عند ذلك، وانقطعَتْ علائقُ حِيَلِهِ؛ وإنَّما قُوَّتُهُ ووسوستُهُ مع الغَفْلَة، وإذا كان الذِّكْرُ بالأَمْنِ والغَفْلَةِ لَمْ تفارقْهُ الوَسْوَسَةُ، وإنِ استدام العَبْدُ الذِّكْرَ والقراءةَ؛ لأَنَّ على قلب الغافلِ غشاوةً؛ ولا يجد صاحبها لطعم الذكْرِ حلاوةً، فَتَحَفَّظْ على دينك من هذا العَدُوِّ، وليس لك أن تزيله عن مرتبته، ولا أَنْ تزيحَهُ عن وطنه، وإنما أُبِيحَ لك مجاهدته، فاستعنْ باللَّه يُعِنْك، وثِقْ باللَّه؛ فإنَّهُ لا يَخْذُلُكَ؛ قال تعالى: {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} [العنكبوت: 69]، انتهى من تصنيفه رحمه اللَّه. وندب سبحانه في الآية المتقدمة إلى الأخذ بمكارم الأخلاق، ووعد على ذلك، وعَلِمَ سبحانه أَنَّ خِلْقَةَ البشر تغلب أحياناً وتَثُورُ بِهِمْ سَوْرَةُ الغضب ونَزْغُ الشيطان؛ فَدَلَّهُمْ في هذه الآية على ما يُذْهِبُ ذلك، وهي الاستعاذة به عزَّ وجلَّ، ثم عَدَّدَ سبحانه آياته؛ ليعتبر فيها، فقال: {وَمِنْ ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر}، ثم قال تعالى: {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ}: وإِنْ كانت لكم فيهما منافع؛ لأَنَّ النفع منهما إنَّما هو بتسخير اللَّهِ إيَّاهما، فهو الذي ينبغي أَنْ يُسْجَدَ له، والضمير في {خَلَقَهُنَّ} قيل: هو عائد على الآيات المتقدم ذكرُهَا، وقيل: عائد على الشمس والقمر، والاثنان جمع، وأيضاً جمع ما لاَ يَعْقِلُ يُؤنَّثُ، فلذلك قال: {خَلَقَهُنَّ} ومن حيث يقال: شُمُوسٌ وأقمار؛ لاِختلافهما بالأَيَّامِ ساغ أنْ يعود الضميرُ مجموعاً، وقيل: هو عائد على الأربعة المذكورة. * ت *: ومن كتاب المستغيثين باللَّه لأبي القاسم بن بَشْكَوَال حَدَّثَ بسنده إلى أَنس بن مالك، قال: تقرأ حاما السجدة، وتَسْجُدُ عند السجدة، وتَدْعُو؛ فإنَّه يُسْتَجَابُ لك، قال الراوي: وَجَرَّبْتُهُ فوجدته مُسْتَجاباً، انتهى،، ثم خاطب جل وعلا نَبِيَّهُ عليه السلام بما يتضمَّن وعيدهم وحقارَة أمرهم، وأَنَّهُ سبحانه غَنِيٌّ عن عبادتهم بقوله: {فَإِنِ استكبروا...} الآية، وقوله: {فالذين} يعني بهم الملائكة هم صَافُّونَ يسبحون، و{عِندَ} هنا ليست بظرف مكان؛ وإِنَّما هي بمعنى المنزلة والقربةِ؛ كما تقول: زَيْدٌ عنْدَ الْمَلِكِ جليلٌ، ويروى أَنَّ تَسبيحَ الملائكة قد صار لهم كالنَّفْسِ لبني آدم، {وَلاَ يَسْئَمُونَ} معناه: لا يَملُّون، ثم ذكر تعالى آيةً منصوبةً؛ ليعتبر بها في أمر البعث من القبور، ويستدِلَّ بما شُوهِدَ من هذه على ما لم يُشَاهَدْ، فقال: {وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الأرض خاشعة...} الآية، وخشوع الأرض هو ما يظهر عليها من استكانة وشَعَثٍ بالجَدْبِ، فهي عابسةٌ كما الخاشِعُ عَابِسٌ يكاد يَبْكِي، واهتزاز الأرض: هو تَخَلْخُلُ أجْزَائِهَا وَتَشَقُّقُهَا للنبات، ورُبُوُّهَا: هو انتفاخها بالماء وعُلُوُّ سطحِها به، وعبارة البخاريِّ: اهتزت بالنبات، ورَبَت: ارتفعَت اه، ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي أنْ يُقَاسَ على هذه الآية، والعبرة، وذلك إحياء الموتى، فقال: {إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} والشيء في اللغة: الموجود. .تفسير الآيات (40- 43): وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في ءاياتنا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا...} الآية، آيةُ وعيدٍ، والإلحاد: المَيْلُ، وهو هنا ميل عن الحَقِّ؛ ومنه لَحْدُ المَيِّتِ؛ لأنَّه في جانب، يقال: لَحَدَ الرَّجُلُ، وألحد بمَعْنًى. واختلف في إلحادهم هذا: ما هو؟ فقال قتادة وغيره: هو إلحاد بالتكذيب، وقال مجاهد وغيره: هو بالمُكَاءِ والصفير واللغو الذي ذهبوا إليه، وقال ابن عباس: إلحادهم: وَضْعُهُمْ للكَلاَمِ غَيْرَ موضعه، ولفظة الإلحاد تَعُمُّ هذا كُلَّه، وباقي الآية بَيِّنٌ. وقوله تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} وعيدٌ في صيغة الأمر؛ بإجماع من أهل العلم. وقوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر...} الآية: يريد ب {الذين كَفَرُواْ} قريشاً، و{الذكر}: القرآن؛ بإجماع. واختُلِفَ في الخبر عنهم: أين هو؟ فقالت فرقة: هو في قوله: {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]، ورُدَّ بكثرة الحائل، وأنَّ هنالك قوماً قد ذكروا بحسن رد قوله: أولئك ينادون عليهم، وقالت فرقة: الخبر مُضمَرٌ، تقديره: إنَّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم، هَلَكُوا أو ضَلُّوا، وقيل: الخبر في قوله: {وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ} وهذا ضعيف لا يتجه، وقال عمرو بن عُبَيْدٍ: معناه في التفسير: إنَّ الذين كفروا بالذِّكْرِ لما جاءهم كفروا به، وإنه لكتاب عزيز؛ قال * ع *: والذي يَحْسُنُ في هذا هو إضمار الخبر، ولكِنَّهُ عند قوم في غير هذا الموضع الذي قدَّره هؤلاء فيه؛ وإنَّمَا هو بعد {حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، وهو أَشَدُّ إظهاراً لِمَذَمَّةِ الكُفَّارِ به؛ وذلك لأَنَّ قوله: {وَإِنَّهُ لكتاب} داخل في صفة الذكر المُكَذَّبِ بهِ؛ فلم يتم ذكر المُخْبَر عنه إلاَّ بعد استيفاء وصفِهِ، ووصفَ اللَّه تعالى الكتابَ بالعِزَّةِ؛ لأنه بصحة معانيه مُمْتَنِعٌ الطَّعْنُ فيه والإزراء عليه، وهو محفوظ من اللَّه تعالى؛ قال ابن عباس: معناه: كريمٌ على اللَّه تعالى. وقوله تعالى: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل} قال قتادة والسُّدِّيُّ: يريد: الشيطان، وظاهر اللفظَ يَعُمُّ الشيطان، وأنْ يجيء أمْرٌ يُبْطِلُ منه شَيْئاً. وقوله: {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} معناه: ليس فيما تقدم من الكتب ما يُبْطِلُ شَيْئاً منه. وقوله: {وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} أي: ليس يأتي بعده من نَظَرِ ناظر وفِكْرَةِ عاقل ما يبطل شيئاً منه، والمراد باللفظة عل الجملة: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات. وقوله: {تَنزِيلَ} خبر مبتدإٍ، أي: هو تنزيلٌ. وقوله تعالى: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ}: يحتمل معنيين. أحدهما: أنْ يكون تسليةً للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عن مقالات، قومه وما يلقَاهُ من المكروه منهم. والثاني: أنْ يكون المعنى: ما يقال لك من الوحي، وتُخَاطَبُ به من جهة اللَّه تعالى إلاَّ ما قد قيل للرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ. .تفسير الآيات (44- 46): وقوله تعالى: {وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً...} الآية، الأَعْجَمِيُّ: هو الذي لا يفصح، عربيًّا كان أو غير عربيٍّ، والعَجَمِيُّ: الذي ليس من العرب، فصيحاً كان أو غيرَ فصيحٍ، والمعنى: ولو جعلنا هذا القرآن أعجمِيّاً، لا يبين لقالوا واعترضوا: لولا بينت آياته، وهذه الآية نزلت بسبب تخليطٍ كان من قريش في أقوالهم من أجل حروف وقعت في القرآن، وهي مِمَّا عُرِّبَ من كلام العجم؛ كسِجِّينٍ وإسْتَبْرَق ونحوه، وقرأ الجمهور: {ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ} على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف، وقَرَأَ حمزةُ والكسائيُّ وحَفْصٌ: {أَأَعْجَمِيٌّ} بهمزتين، وكأنهم يُنْكِرُونَ ذلك، ويقولون: أأعجمي وعربي مُخْتَلِطٌ؟ هذا لا يحسن ثم قال تعالى: {قُلْ هُوَ} يعني القرآن {لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَاءٌ} واختلف الناس في قوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} فقالت فرقة: يريد ب {هو} القرآن، وقالت فرقة يريد ب {هو} الوَقْرَ، وهذه كلُّها استعاراتٌ، والمعنى: أَنَّهم كالأعمى وصاحب الوقر؛ وهو الثِّقْلُ في الأذن، المانِعُ من السمع؛ وكذلك قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} يحتمل معنيين، وكلاهما مَقُولٌ للمفسِّرين: أحدهما: أنَّها استعارة لِقِلَّة فِهمهم، شَبَّهَهُمْ بالرجل ينادى على بُعْدٍ، يَسْمَعُ منه الصوت، ولا يفهمُ تفاصيلَهُ ولا معانيه، وهذا تأويلُ مجاهد. والآخر: أنَّ الكلام على الحقيقة، وأَنَّ معناه: أَنَّهم يوم القيامة يُنَادَوْنَ بكفرهم وقبيحِ أعمالهم من بعد؛ حتى يَسْمَعَ ذلك أهلُ الموقف؛ ليُفْضَحُوا على رؤوس الخلائق، ويكونَ أعظمَ لتوبيخهم؛ وهذا تأويل الضَّحَّاكِ. قال أبو حَيَّان: {عَمًى} بفتح الميم مصدر عَمِيَ، انتهى. ثم ضرب اللَّه تعالى أمر موسى مثلاً للنبي عليه السلام ولقريش، أي: فَعَلَ أولئك كأفعال هؤلاء، حين جاءهم مِثْلُ ما جاء هؤلاءِ، والكلمةُ السابقةُ هي حَتْمُ اللَّهِ تعالى بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، والضمير في قوله: {لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} يحتمل أنْ يعودَ على موسى، أو على كتابه. وقوله تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ...} الآية: نصيحةٌ بليغةٌ لِلْعَالَمِ، وتحذيرٌ وترجيَةٌ. .تفسير الآيات (47- 50): وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة...} الآية، المعنى: إنَّ علم الساعة ووقتَ مجيئها يَرُدُّهُ كُلُّ مؤْمِنٍ متكلِّم فيه إلى اللَّه عز وجل. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى...} الآية، التقدير: واذكر يوم يناديهم، والضمير في {يُنَادِيهِمْ} الأظهر والأسبق فيه للفهم: أنَّه يريد الكفارَ عَبَدَةَ الأوثان، ويحتمل أنْ يريد كُلَّ مَنْ عُبِدَ من دون اللَّه من إنسانٍ وغَيْرِهِ، وفي هذا ضَعْفٌ، وأَمَّا الضمير في قوله: {وَضَلَّ عَنْهُم} فلا احتمال لِعَوْدَتِهِ إلاَّ على الكفار، و{ءَاذَنَّاكَ} قال ابن عباس وغيره: معناه: أعلمناك ما مِنَّا مَنْ يشهدُ، ولا مَنْ شَهِدَ بأنَّ لك شريكاً {وَضَلَّ عَنْهُم} أي: نَسُوا ما كانوا يقولُونَ في الدنيا، ويَدْعُونَ من الآلهة والأصنام، ويحتمل أن يريد: وضَلَّ عنهم الأصنام، أي: تلفت، فلم يجدوا منها نَصْراً، وتلاشى لهم أمْرُهَا. وقوله: {وَظَنُّواْ} يحتمل أنْ يكونَ متَّصِلاً بما قبله، ويكون الوقْفُ عليه، ويكون قوله: {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} استئنافاً، نفَى أنْ يكُونَ لهم مَلْجَأً أو موضِعَ رَوَغَانٍ، تقول: حَاصَ الرَّجُلُ: إذَا رَاغَ لِطَلَبِ النجاةِ مِنْ شَيْءٍ؛ ومنه الحديثُ: «فَحاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إلَى الأَبْوَابِ»، ويكونَ الظَّنُّ على هذا التأويل على بابه، أي: ظَنُّوا أَنَّ هذه المقالة {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} مَنْجَاةٌ لهم، أو أمر يموِّهون به، ويحتمل أنْ يكون الوقف في قوله: {مِن قَبْلُ}، ويكون {وَظَنُّواْ} متصلاً بقوله: {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} أي: ظنوا ذلك، ويكون الظن على هذا التأويل بمعنى اليقين، وقد تقدَّم البحثُ في إطلاق الظن على اليقين. * ت *: وهذا التأويلُ هو الظاهرُ، والأوَّلُ بعيدٌ جدًّا. وقوله تعالى: {لاَّ يَسْئَمُ الإنسان مِن دُعَاءِ الخير} هذه آياتٌ نزلَتْ في كُفَّارٍ، قيل: في الوليد بن المُغِيرَةِ، وقيل: في عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وجُلُّ الآية يُعْطِي أَنَّها نزلَتْ في كُفَّارٍ، وإنْ كان أَوَّلُها يتضمن خُلُقاً ربما شارك فيها بَعْضُ المؤمنين. و{دُعَاءِ الخير} إضافته إضافة المصدر إلى المفعول، وفي مصحف ابن مسعود: {مِنْ دُعَاءٍ بالْخَيْرِ} والخيرُ في هذه الآية المالُ والصحَّةُ، وبذلك تليق الآية بالكفَّار. وقوله تعالى: {لَيَقُولَنَّ هذا لِى} أي: بعملي وبما سعيت ولا يرى أَنَّ النِّعَمَ إنَّما هي فَضْلٌ من اللَّهِ تعالى؛ قال * ص *: {لَيَقُولَنَّ} قال أبو البقاءِ: هو جَوَابُ الشَّرْطِ، والفاء محذوفةٌ، وقيل: هو جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، قال * ص *: قُلْتُ: هذا هو الحَقُّ، والأَوَّلُ غلَطٌ؛ لأَنَّ القَسَمَ قد تقدَّم في قوله: {وَلَئِنِ} فالجواب له، ولأَنَّ حذف الفاء في الجواب لا يجوزُ، انتهى، وفي تغليط الصَّفَاقُسِيِّ لأبي البقاء نظر. وقوله: {وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} قولٌ بَيِّنٌ فيه الجَحْدُ والكُفْر، ثم يقول هذا الكافر: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى رَبِّى}: كما تقولُونَ: {إن لي عنده للحسنى} أي: حالاً ترضيني من مال، وبنين، وغيرِ ذلك، قال * ع *: والأمانيُّ على اللَّه تعالى، وتركُ الجِدِّ في الطاعةِ مذمومٌ لكُلِّ أحد؛ فقد قال عليه السلام: «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لَمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنِ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتمنى عَلَى اللَّهِ».
|